آخر الأخبار

اذكر الله

اللغة language

English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

الجمعة، 23 سبتمبر 2011

نعمة الاستقرار ووجوب المحافظة عليها


نِعْمَةُ الاسْتِقْرَارِ وَوُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
25 من شوال 1432هـ الموافق 23/9/2011م
نِعْمَةُ الاسْتِقْرَارِ وَوُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا

    الْحَمْدُ للهِ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ؛ أَصَابَ عِبَادَهُ بِالْخَيْرِ وَالسَّرَاءِ، وَدَفَعَ عَنْهُمُ الْبَلاَء وَالضَّرَّاءَ، وَجَعَلَهُمْ فِي دَارِ امْتِحَانٍ وَابْتِلاَءٍ؛ لِيَجِدُوا مَا عَمِلُوا يَوْمَ الْجَزَاءِ: ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( [الزلزلة :7-8 ] ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْأَفُ الأُمَّةِ بِالأُمَّةِ ، وَأَنْصَحُهُمْ لَهَا، وَأَصْدَقُهُمْ مَعَهَا، وَأَعْلَمُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهَا، لاَ خَيْرَ إِلاَّ دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلاَ شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

    أَمَّا بَعْدُ:
    فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَإِخْلاَصِ الْعَمَلِ لَهُ وَحْدَهُ، وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهِ دُونَ سِوَاهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَافِعُ الْبَلاَءِ، وَكَاشِفُ الضَّرَّاءِ، وَمُتَمِّمُ النَّعْمَاءِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ:  ) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (  [الأنبياء:112].

   أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ :
 مِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَنَيْلِ الْقُوَّةِ وَالتَّمْكِينِ، وَالرُّقِيِّ وَالتَّعْمِيرِ: الاسْتِقْرَارُ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ، وَفِي كُلِّ مَجَالاَتِهِ، لاَسِيَّمَا فِي الْمَجَالَيْنِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ؛ لأَنَّ مِنْ شَأْنِ اضْطِرَابِهِمَا اضْطِرَابُ حَيَاةِ النَّاسِ؛ وَلِذَا يَكْثُرُ فِي الاسْتِعْمَالِ السِّيَاسِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ اسْتِخْدَامُ كَلِمَةِ الاسْتِقْرَارِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الاسْتِقْرَارَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِ الْعَيْشِ، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّارِيخِ وَالْوَاقِعِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَالْبِلاَدُ الَّتِي تَكُونُ مُسْتَقِرَّةً يَفِدُ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَيَرْغَبُونَ فِيهَا، وَيَبْذُلُونَ الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ لِسُكْنَاهَا، وَمِنْ عَظِيمِ النِّعَمِ الَّتِي بُشِّرَ بِهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ: الاسْتِقْرَارُ فِيهَا، وَعَدَمُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا(  [الفرقان:24]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى:  )خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(  [الفرقان: 76]. وَكُلُّ بِلاَدٍ تَفْقِدُ اسْتِقْرَارَهَا، وَتَضْطَرِبُ أَحْوَالُهَا؛ يَفِرُّ النَّاسُ مِنْهَا، مُخَلِّفِينَ وَرَاءَهُمْ أَحِبَّتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدُورَهُمْ، يَتْرُكُونَ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، يَنْشُدُونَ الأَمْنَ وَالاسْتِقْرَارَ، وَلَوْ شُرِّدُوا وَطُورِدُوا، وَلَوْ عَاشُوا لاَجِئِينَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، مُغْتَرِبِينَ عَنْ بُلْدَانِهِمْ، مُعْدَمِينَ بَقِيَّةَ أَعْمَارِهِمْ، فَالدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لاَ تُسَاوِي شَيْئًا بِلاَ اسْتِقْرَارٍ، فَلاَ قِيمَةَ لِلْقُصُورِ وَالدُّورِ وَالأَمْوَالِ إِذَا فُقِدَ الاسْتِقْرَارُ، وَلاَ يَبْقَى فِي الْبِلاَدِ الْمُضْطَرِبَةِ إِلاَّ مَنْ عَجَزَ ، عَنِ الرَّحِيلِ عَنْهَا، يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ كُلَّ لَحْظَةٍ،  وَأَعْدَادُ اللاَّّجِئِينَ وَالْمُشَرَّدِينَ فِي الأَرْضِ قَدْ بَلَغَتْ عَشَرَاتِ الْمَلاَيِينِ ، أَتُرَاهُمْ يَفِرُّونَ لَوْ وَجَدُوا قَرَارًا فِي بُلْدَانِهِمْ، وَاسْتِقْرَارًا لِعَيْشِهِمْ؟! لاَ وَاللهِ لاَ يَرْضَى بِاللُّجُوءِ وَالتَّشْرِيدِ، وَمُفَارَقَةِ الْبُلْدَانِ، وَغُرْبَةِ الدَّارِ إِلاَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ قَرَارًا فِي بَلَدِهِ الَّتِي عَاشَ فِيهَا، وَاسْتَنْشَقَ نَسِيمَهَا، وَلاَ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ لَهْفَتِهِ وَشَوْقِهِ لَهَا حَالَ بُعْدِهِ عَنْهَا.

    وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ -أَعْنِي نِعْمَةَ الاسْتِقْرَارِ- هِيَ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْبَشَرِ لِيَصِحَّ عَيْشُهُمْ فِي الأَرْضِ، وَيَسْتَطِيعُوا عِمَارَتَهَا، وَالْقِيَامَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَفِي قِصَّةِ هُبُوطِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِلَى الأَرْضِ ، وَاسْتِخْلاَفِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِيهَا؛ كَانَ الاسْتِقْرَارُ هُوَ الرُّكْنُ الأَوَّلُ مِنْ رُكْنَيْ عَيْشِ الإِنْسَانِ عَلَى الأَرْضِ وَعِمَارَتِهَا: )وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( [البقرة: 36]، فَالْمُسْتَقَرُّ هُوَ قَرَارُهَا لَهُمْ، وَأَمْنُهُمْ فِيهَا، وَالْمَتَاعُ هُوَ الْمَآكِلُ وَالْمَشَارِبُ وَالْمَلاَبِسُ وَالْمَرَاكِبُ وَنَحْوُهَا، وَفِي مِنَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ: )وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ([الأعراف:10]، أَيْ: أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى أُمُورِ الأَرْضِ، وَخَوَّلْنَاكُمُ التَّصَرُّفَ فِي مَخْلُوقَاتِهَا، وَالتَّمْكِينُ فِي الأَرْضِ هُوَ الْمُسْتَقَرُّ الْمَذْكُورُ فِي الآيَةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَعَايِشَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هِيَ الْمَتَاعُ فِي السَّابِقَةِ، وَمِثْلُ الآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ قَوْلُ اللـهِ تَعَالَـــى:) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (  [الملك:15 ].

    وَمِنْ بَرَاعَةِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الأَصْلَ عَلَى الْفَرْعِ، وَالأَهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَكَانَ هَذَا الأُسْلُوبُ الْبَلاَغِيُّ مُطَّرِدًا فِي آيَاتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الاسْتِقْرَارُ أَهَمَّ مِنَ الْمَعَايِشِ وَالأَرْزَاقِ وَالْمَتَاعِ، بَلْ لاَ مَتَاعَ وَلاَ مَعَايِشَ إِلاَّ بِاسْتِقْرَارٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ تَارِيخِ الْبَشَرِ وَوَاقِعِهِمْ؛ فَإِنَّ الآيَاتِ الْكَرِيمَةَ قَدَّمَتِ الاسْتِقْرَارَ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَجَعَلَتِ الْمَعَايِشَ تَالِيَةً لَهُ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ وَالْبَيَانُ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمُلْكِ، وَفِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لاَ قِيَامَ لأُِمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلاَ عِمَارَةَ لِلأَرْضِ الَّتِي اسْتُخْلِفُوا فِيهَا إِلاَّ بِتَحْقِيقِ الاسْتِقْرَارِ فِيهَا، وَأَنَّ أَيَّ اضْطِرَابٍ سَيَكُونُ لَهُ أَثَرٌ بَالِغٌ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَفِي الامْتِنَانِ بِنَشْأَةِ الْبَشَرِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: )وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( [الأنعام: 98]، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: « مُسْتَقَرٌّ فِي الأَرْضِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الْقُبُورِ ».

    إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ :
    إِنَّ الأَرْضَ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقَرًّا لِلْبَشَرِ، وَلَمْ يُمَكَّنْ لَهُمْ فِيهَا إِلاَّ لَمَّا ذَلَّلَهَا اللهُ تَعَالَى لَهْمُ وَمَهَّدَهَا، وَمَدَّهَا، وَأَرْسَاهَا فَلاَ تَضْطَرِبُ: ) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ( [الرعد:3]،  )أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا( [النَّبأ:6].

    وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا الاسْتِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ سَيِّدَ الأَرْضِ وَمَلِكَهَا، وَيُدِيرَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا، فَسَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ كُلَّ مَا فِي الأَرْضِ: )وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(   [الجاثية:13]، فَكَانَتْ مَخْلُوقَاتُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَقْوَى مِنْهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُودُهَا الإِنْسَانُ، وَيَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا، فَتَنْقَادُ لَهُ مُسَخَّرَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى الْبَشَرِ إِلاَّ مِنَ الْبَشَرِ، وَلاَ خَوْفَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مِنْهُمْ؛ لأَنَّهُمْ سَادَةُ الأَرْضِ، مَلَّكَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا، وَسَخَّرَ لَهُمْ مَا فِيهَا؛ لِيُقِيمُوا دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ عَلَيْهَا، وَلِيَعْبُدُوهُ لاَ يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا: ) كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (    [سبأ:15].

    اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرينَ، وَجَنِّبْنَا سُبُلَ الْهَالِكِينَ، وَزِدْنَا مِنَ النَّعِيمِ، وَاتْمُمْ لَنَا حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَاجْمَعْ لَنَا مَعَهَا حَسَنَةَ الآخِرَةِ: ) رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (  [البقرة:201].
    أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

   الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:
    فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا، وَمَا تَمُوجُ بِهِ الأَرْضُ مِنْ مِحَنٍ وَفِتَنٍ وَابْتِلاَءَاتٍ لاَ يَخْرُجُ عَنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ: ) أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (    [الأعراف:54]، وَتَقْوِيَةُ الإِيمَانِ بِالْقَدَرِ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ؛ لِئَلاَّ تَمِيدَ بِالْعَبْدِ فِتْنَةٌ فَيَقَعَ فِي سَعِيرِهَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: « مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللهِ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا، أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا، لَقِيَ اللهَ فَأَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَأَخْرَقَ لِسَانَهُ، وَجَعَلَ صَلاتَهُ وَصِيَامَهُ هَبَاءً، وَقَطَعَ بِهِ الأَسْبَابَ، وَأَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ».

    إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ والإِيمَانِ :
    لَمَّا كَانَ لِلاسْتِقْرَارِ هَذِهِ الأَهَمِّيَّةُ الْبَالِغَةُ فِي صَلاَحِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَاسْتِقَامَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الرَّبَّانِيَّةُ تَدْعُو إِلَى كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الاسْتِقْرَارِ، وَتُرَغِّبُ فِيهِ، وَتَقْطَعُ كُلَّ طَرِيقٍ تُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالاضْطِرَابِ، وَتَنْهَى عَنْهَا، وَتَمْنَعُ مِنْهَا، وَكَانَ هَذَا أَصْلاً مَتِينًا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي إِجْرَاءَاتٍ عِدَّةٍ،

    وَتَشْرِيعَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَمِنْ تَشْرِيعَاتِ الإِسْلاَمِ لإِدَامَةِ الاسْتِقْرَارِ: الأَمْرُ بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الاخْتِلاَفِ وَالْفُرْقَةِ؛ لأَنَّ الاخْتِلاَفَ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، فَيَزُولُ الاسْتِقْرَارُ: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا( [آل عمران:105]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ». [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ ].

    وَمِنْ تَشْرِيعَاتِ الإِسْلاَمِ لإِدَامَةِ الاسْتِقْرَارِ: مُجَانَبَةُ الْفِتَنِ وَأَهْلِهَا، وَالْحَذَرُ مِنْ مَسَارِبِهَا،                            كَمَا قَالَ النَّبِيُّ r : « إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِي فَصَبَرَ فَوَاهًا».  [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ].

    وَقَدْ يَظُنُّ الإِنْسَانُ أَنَّ لَدَيْهِ إِيمَانًا يَعْصِمُهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، أَوْ عَقْلاً يَدُلُّهُ عَلَى الصَّوَابِ فِيهَا، فَإِذَا قَلْبُهُ يَتَشَرَّبُهَا وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، فَتَصْلاَهُ نَارُهَا، وَتَحْرِقُهُ أَتُونُهَا، وَيَغْرَقُ فِي لُجَّتِهَا. وَحِينَ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَوَصَفَهُ لأُمَّتِهِ وَصْفًا دَقِيقًا يَعْرِفُونَهُ بِهِ أَمَرَ بِالْهَرَبِ مِنْهُ؛ خَشْيَةَ الافْتِتَانِ بِهِ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» . [ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ]. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ فِتْنَتُهُ مَعْلُومَةٌ، وَوَصْفُهُ لِلْمُؤْمِنِ مَعْرُوفٌ، فَكَيْفَ بِفِتْنَةٍ مُلْتَبِسَةٍ لاَ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ عَنْهَا شَيْئًا، وَلاَ يَدْرِي أَهِيَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ؟!

    وَمِنْ تَشْرِيعَاتِ الإِسْلاَمِ لإِدَامَةِ الاسْتِقْرَارِ: الأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ شَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ r لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ زَمَنِ اسْتِحْكَامِ الْفِتَنِ، وَكَثْرَةِ الدُّعَاةِ إِلَى جَهَنَّمَ، سَأَلَهُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَمَّا يَفْعَلُ إِنْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ r « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» .  [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ].

    وَأَمَرَ  r بِالصَّبْرِ عَلَى الظُّلْمِ وَالأَثَرَةِ، وَمُدَافَعَةِ الْمُنْكَرَاتِ بِالنَّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَالَ r: « إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا ». ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: « أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ ». [ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ  وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ ]. وَقَالَ r « مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».  [رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ].

    مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ :
    إِنَّهُ حِفَاظاً عَلَى الاسْتِقْرَارِ الَّذِي نَنْعَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ الْمُبَارَكَةِ وَشُكْراً للهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ: يَجِبُ عَلَيْنَا التَّوَاصِي بِتَغْلِيبِ الْمَصْلَحَةِ العَامَّةِ لِلْبِلاَدِ عَلَى الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ، وَحَثِّ الْجَمِيعِ عَلَى بَذْلِ مَزِيدٍ مِنَ الْعَمَلِ وَالْجُهْدِ، وَعَدَمِ الانْصِيَاعِ إِلَى الدَّعَوَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ سَبَباً فِي النَّيْلِ مِنِ اسْتِقْرَارِنَا أَوْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي نَنْعَمُ بِهَا؛ وَلاَ شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَجْنِيبَ الْبِلاَدِ فِتَناً عَصَفَتْ بِكَثِيرٍ مِنَ الْبِلاَدِ الَّتِي اسْتَسْلَمَتْ لِمِثْلِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ الْغَرْبِ، وَفِيهَا أَيْضاً تَفْويتُ الْفُرْصَةِ عَلَى الْمُغْرِضِينَ أَوِ الْحَاقِدِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ سُمُومَ الْفُرْقَةِ وَالْخِلاَفِ بَيْنَ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ، لِيُشَتِّتُوا جُهُودَنَا، وَيَكْسِرُوا شَوْكَتَنَا، وَيُفَرِّقُوا صُفُوفَنَا.

    إِنَّ الاجْتِمَاعَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الأَزَمَاتِ، وَالوُقُوفَ خَلْفَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ الْكِبَارِ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ، لاَسِيَّمَا عِنْدَمَا تَتَدَفَّقُ الرِّيبَةُ وَعَدَمُ الاطْمِئْنَانِ إِلَى بَعْضِ الْقُلُوبِ، وَعَلَى الْجَمِيعِ الاتِّصَالُ الْوَثِيقُ بِاللهِ تَعَالَى لِلْعِصْمَةِ مِنَ الْفِتَنِ، وَالاسْتِعَانَةُ بِهِ تَعَالَى، وَالاسْتِمَاعُ لِصَوْتِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ الغَيُورِينَ عَلَى الْبَلَدِ فِي خَنْدَقٍ وَاحِدٍ لِصَدِّ أَيِّ مُحَاوَلَةٍ لِزَعْزَعَة أَمْنِ الْبِلاَدِ وَاسْتِقْرَارِهَا.

    إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ والإِيمَانِ :
    إِنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَبَاعُدِ الْقُلُوبِ وَتَبَاغُضِهَا، وَاخْتِلاَفِ الْكَلِمَةِ وَافْتِرَاقِهَا، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ يُنْهَى عَنْهُ، وَيُحذَّرُ مِنْهُ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الاضْطِرَابِ، وَيَقْضِي عَلَى الاسْتِقْرَارِ، وَهُوَ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي تَشْرَئِبُّ أَعْنَاقُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لاِفْتِرَاسِهَا، وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى أَجْزَاءٍ مِنْهَا، وَتُغْرِي الدُّوَلَ الاسْتِعْمَارِيَّةَ بِاقْتِحَامِهَا وَنَهْبِ ثَرَوَاتِهَا؛ فَالْخَيْرُ لأَهْلِهَا -حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ- أَنْ تَأْتَلِفَ قُلُوبُهُمْ، وَتَجْتَمِعَ كَلِمَتُهُمْ، وَيُطْفِئُوا مَشَاعِلَ الْفِتْنَةِ فِيهِمْ، وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ.

    حَمَى اللهُ تَعَالَى بِلاَدَنَا وَبِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَأَدَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الأَمْنَ وَالاسْتِقْرَارَ، وَالْعِزَّةَ وَالازْدِهَارَ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .

هَذَا وَصَلُّوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى إِمَامِ الْهُدَى مُحَمَّدٍ خَيْرِ الأَنَامِ، كَمَا أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ وَأَنْعِمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ، وَاحْفَظِ اللَّهُمَّ بَلَدَنَا وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّ الأَشْرَارِ وَكَيْدِ الْفُجَّارِ، وَشَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَارْزَقْنَا اللَّهُمَّ صَلاَحَ الآلِ وَالْمَالِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالنَّوَالِ، وَأَصْلِحِ اللَّهُمَّ أَئِمَّتَنَا وَوُلاَةَ أُمُورِِنَا وَوَفِّقْهُمْ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
منقولة من قطاع المساجد بالكويت

إنضم لقائمة غرباء البريدية

أدخل بريدك الالكتروني ليصلك جديد المدونة

Delivered by FeedBurner

المشاركات الشائعة